المادة    
وقالت الجهمية: لا يُحِبّ الله ولا يُحَبّ مطلقاً، فهم عكس الصوفية تماماً، وكم من آيات وأحاديث فيها المحبة! فكيف يكذبونها؟! لقد لجئوا إلى الباب الذي يدخل منه كل كاذب ومفتر على هذا الدين، وهو التأويل، قال ابن القيم: "فأولوا نصوص محبة العباد على محبة طاعته وعبادته والازدياد من الأعمال، لينالوا بها الثواب، وإن أطلقوا عليهم لفظ (المحبة)، فلما ينالون به من الثواب والأجر، والثواب المنفصل عندهم هو المحبوب لذاته، والرب تعالى محبوب لغيره حب الوسائل" فجعلوا حب الثواب لذاته، وأما حب الله فهو من باب الوسائل، أي: نحبه لأنه يثيبنا فقط، فجعلوا المحبة للثواب لا لله!! نسأل الله العافية.
وقال: "وأولوا نصوص محبته لهم بإحسانه إليهم، وإعطائهم الثواب، وربما أولوها بثنائه عليهم ومدحه لهم ونحو ذلك" وإذا سئلوا: لماذا هذا التأويل ؟ قالوا: لأن المحبة رقة وانفعال في القلب لا يليق بالله، فنقول لهم: وهل الثناء يليق بالله؟! وما الفرق بينهما؟!
قال: "وربما أولوها بإرادته لذلك" أي: بإرادة الإنعام كما يقول بعض المتأخرين، ولعلنا نأتي عليه إن شاء الله فيما بعد، وقالوا: لو أنا أثبتنا صفة المحبة لله، لكان فيه تشبيه وتجسيم، فنقول: فلماذا أثبتم الإرادة؟ أليس في هذا تشبيه وتجسيم؟!! ونقول: إذا كان في إثبات المحبة تجسيم ففي إثبات الإرادة تجسيم أيضاً!! فلماذا تؤولون المحبة بإرادة الإنعام؟!! والغضب بإرادة الانتقام، وهذا التأويل المتعسف يوجد في كتب التفسير غير السنية، وهي كثيرة.
ثم يقول رحمه الله: "وجميع طرق الأدلة: عقلاً، ونقلاً، وفطرةً، وقياساً، واعتباراً، وذوقاً، ووجداً؛ تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده.
وقد ذكرنا لذلك قريباً من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة"، ويقصد رحمه الله بكتابه الكبير روضة المحبين، وذكر شيئاً من ذلك في حادي الأرواح .
قال: "وقد ذكرنا فيه فوائد المحبة -إلى قوله:- وأن المنكرين لذلك قد أنكروا خاصة الخلق والأمر، والغاية التي وجدوا لأجلها، فإن الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة ولأجلها، وهي الحق الذي به خلقت السماوات والأرض، وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي، وهي سر التأليه وتوحيدها: هو شهادة أن لا إله إلا الله" فمن أنكره فقد أنكر أمراً عظيماً، وأنكر الدين كله، لأن الدين يتضمن ويقتضي محبته سبحانه وتعالى.
ثم قال ابن القيم رحمه الله في صفحة (27) "فلو بطلت مسألة المحبة، لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله، فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل، فإذا خلا منها، فهو ميت لا روح فيه" أي: فأي عبادة يفعلها الإنسان لا محبة فيها، فلا خير فيها، ولو فرضنا أن شخصاً يصوم وهو يكره الصيام، ويصلي وهو يكره الصلاة، أو يشهد أن لا إله الله وهو يكره التوحيد؛ فهل يكون مؤمناً؟! كلا والله! فالصدق هو أساس جميع الأقوال، والمحبة أساس جميع الأعمال، فإذا صدق العبد في طاعته، وأحب الله سبحانه وتعالى فيها كمل إيمانه بإذن الله، وبقية الأعمال تندرج تحتها.
ولهذا يقول: "فالمحبة حقيقة العبودية. وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضا، والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟!" فمثلاً: الإنابة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء والصبر، كلها تندرج تحت المحبة، وبالرغم من علو درجة الصبر، فهو في أعلى الدرجات، لكن الصبر في الحقيقة لا يكون إلا من المحبين، وانظروا إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، هل كانوا يصبرون على ما ابتلوا به لولا محبتهم لله سبحانه وتعالى؟! فهذه المحبة أنستهم كل ألم وأذى؛ فالمحبة إذن هي أساس الصبر.
وكذلك "التوكل؛ فإنه إنما يتوكل على المحبوب في حصول محابه ومراضيه.
وكذلك الزهد؛ في الحقيقة هو زهد المحبين؛ فإنهم يزهدون في محبة ما سوى محبوبهم لمحبته"، ولا نقول: إن الزهد أعلى من المحبة، أو أنه لا علاقة بينهما.
"وكذلك الحياء؛ في الحقيقة إنما هو حياء المحبين"، والمرء لا يشعر بالحياء -حتى في الدنيا- إلا مع من يحب، لكن ليست محبة مجردة، بل محبة مقترنة بالتعظيم والإجلال، فإذا اقترنت المحبة بالتعظيم والإجلال نشأ الحياء.
"فإنه يتولد من بين الحب والتعظيم. وأما ما لا يكون عن محبة؛ فذلك خوف محض" فالفرق بين الخوف المحض والحياء: المحبة.
"وكذلك مقام الفقر" أو الافتقار "فإنه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها، فهو أعلى أنواع الفقر"، إلى أن قال: "وكذلك الغنى هو غنى القلب بحصول محبوبه، وكذلك الشوق إلى الله تعالى ولقائه؛ فإنه لب المحبة وسرها" -نسأل الله أن يرزقنا محبته، ويجعلنا ممن يشتاقون إلى لقائه- فأصل الشوق المحبة، فمن محبته يشتاق المؤمنون إلى لقائه.
يقول: "فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب؛ معطل لذلك كله، وحجابه أكثف الحجب، وقلبه أقسى القلوب وأبعد عن الله" -وهذا حال الجهمية ومن اتبعهم- "وهو منكر لخلة إبراهيم عليه السلام"، فينكرون أن يكون الله قد اتخذ إبراهيم خليلاً، كما فعل ذلك شيخهم ومقدمهم الجعد بن درهم الذي سنشرح قصته -بالتفصيل- إن شاء الله.
"فإن الخلة كمال المحبة، وهو يتأول الخليل بالمحتاج، فخليل الله عنده: هو المحتاج فكم -على قوله- لله من خليل من بر وفاجر، بل مؤمن وكافر! إذ كثير من الفجار من ينزل حوائجه كلها بالله صغيرها وكبيرها، ويرى نفسه أحوج شيء إلى ربه في كل حالة".
فالكفار محتاجون إلى الله، فهم -حسب قول الجهمية - أخلاء الله!! أرأيتم كيف يجر التأويل الفاسد إلى أن يكون أي كافر كإبراهيم عليه السلام؟! وكل هذا من أجل ألا يثبتوا أن الله يُحَب أو يُحِب، نعوذ بالله من الضلال!
ثم قال ابن القيم رحمه الله: "فلا بالخلة أقر المنكرون، ولا بالعبودية ولا بتوحيد الإلهية، ولا بحقائق الإسلام والإيمان والإحسان، ولهذا ضحى خالد بن عبد الله القسري بمقدم هؤلاء وشيخهم جعد بن درهم، وقال في يوم عيد الله الأكبر عقيب خطبته: (أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم! فإني مضحٍّ بـالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً) ثم نزل فذبحه، فشكر المسلمون سعيه، ورحمه الله وتقبل منه".
ونسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناته، فإنه -كعادة الأمراء والولاة من غير الصحابة ومن سار على منهجهم في الولاية والحكم- ينسب إليه شيء من الجور والظلم، لكن من حسناته الكبار أنه ضحى بـالجعد ذلك الفاجر المجرم، ليكون عبرةً لمن يأتي بعده من المجرمين في هذه الأمة.